تحوّلت حشرة منزلية لطالما ارتبطت بالقذارة والحكة وفوضى المساكن الشعبية إلى «شاهد صامت» محتمل في مسارح الجريمة بماليزيا، بعد أن أظهرت دراسة حديثة أن حشرة بَقّ الفِراش من النوع الاستوائي قادرة على الاحتفاظ بالحمض النووي البشري داخل أجهزتها الهضمية لمدة قد تصل إلى 45 يوماً بعد امتصاص الدم من ضحاياها أو من المشتبه بهم. في جامعة العلوم الماليزية بمدينة بينانغ، يعمل فريق من علماء الحشرات والطب الشرعي على استغلال هذا «المصرف المتحرك للدم» بهدف إضافة أداة جديدة إلى صندوق أدوات الشرطة العلمية، في بلد يشهد توسعاً في استخدام الأدلة البيولوجية ضمن التحقيقات الجنائية.
داخل مختبرات مكيّفة تُحاكي ظروف المساكن الآسيوية ذات الحرارة الدافئة والإنارة الخافتة، تُربّى حشرة بَقّ الفِراش الاستوائية تحت درجة حرارة تقارب منتصف العشرينيات، وتُغذّى بدم بشري متبرَّع به لإعادة إنتاج سيناريوهات أقرب ما تكون إلى الواقع. يلتهم كل فرد كمية صغيرة من الدم لا تتعدى بضعة ميكرولترات، لكنها تكفي لاستخراج حمض نووي يمكن أن يقدّم للخبراء بصمة جينية كاملة أو شبه كاملة خلال الأيام الأولى التي تلي عملية التبرّع غير الطوعي بالدم. وفي مرحلة لاحقة، ومع مرور الأسابيع وتقدّم الهضم، تتراجع جودة المادة الوراثية، لكنها تظل في أحيان كثيرة صالحة للحصول على أجزاء من الملف الجيني، ما يسمح بإجراء مقارنات أو تأكيدات أولية في ملفات معقّدة.
تكمن قوة هذه المقاربة في أنها لا تكتفي بإنتاج ملف تعريف جيني تقليدي يربط أثراً بشخص بعينه، بل يمكن أن تتيح أيضاً تصوراً أولياً للملامح الخارجية لصاحب الدم عبر تحليل مجموعات محددة من الواسمات الجينية المرتبطة بلون العينين، الشعر، والبشرة، إلى جانب تحديد الجنس. هذا النوع من «الملفات الفينوتيبية» يمنح المحققين تصوراً عن الهيئة المحتملة لصاحب العينة، ما يشبه «صورة تقريبية جزيئية» يمكن أن تساعد في تضييق دائرة الاشتباه، خاصة عندما تغيب البصمات أو اللقطات المصورة. في سيناريو جريمة وقعت في غرفة نوم فندق أو شقة مفروشة، يمكن لحشرة صغيرة مختبئة في شقوق الفراش أن تصبح دليلاً مادياً يحمل أثراً لشخص غادر المكان منذ أسابيع من دون أن يترك خلفه شعرة أو بقعة دم مرئية.
على عكس البعوض، الذي يطير لمسافات أبعد ويغيّر موقعه بسرعة، تميل حشرة بَقّ الفِراش إلى البقاء في نطاق لا يتجاوز بضعة أمتار حول مكان نوم الإنسان، وهو ما يعزّز قوة الربط بين العينة البيولوجية والموقع المحدّد للجريمة. وجود حشرة ممتلئة بالدم على هيكل سرير أو في ثنايا مرتبة قد يعني أن الشخص الذي يحمل ذلك الحمض النووي أمضى وقتاً معتبراً في المكان، وليس مجرد عبور عابر. بالنسبة للمحققين، يفتح هذا الأمر إمكانية جديدة لتثبيت علاقة مادية بين مشتبه به وغرفة معينة في حالات الاعتداءات الجنسية أو جرائم العنف داخل البيوت أو أماكن الإقامة المؤقتة، خاصة عندما يُبلَّغ عن الحادثة بعد أيام ويكون مسرح الجريمة قد خضع للتنظيف.
مع ذلك، لا تقدَّم هذه الحشرات بوصفها «عصا سحرية» قادرة على حل الملفات الغامضة القديمة، إذ تشير النتائج إلى أن النافذة الزمنية المثلى لاستغلال الحمض النووي داخلها لا تتجاوز بضعة أسابيع قبل أن يصبح التحليل غير مجدٍ أو شديد التجزئة. يعني ذلك أن الاعتماد عليها في ما يُعرف بـ«الملفات الباردة» يظل محدوداً، وأن قيمتها الحقيقية تظهر في القضايا التي تُعايَن فيها مسارح الجريمة بسرعة نسبية ويجري فيها التفتيش بدقة عن أي كائن صغير قد يخفي دماً بشرياً. كما أن ما تحمله الحشرة قد يكون مزيجاً من دماء عدة أشخاص، ما يفرض على المختبرات تطوير بروتوكولات قادرة على تفكيك هذا الخليط وفصل ملفات الأفراد ضمنه، وهي مهمة تقنية معقدة لكنها ليست جديدة على مختبرات الطب الشرعي الحديثة.
من زاوية الصحة العامة، تُظهر مراجعات علمية أن حشرة بَقّ الفِراش لا تُعتبر حتى الآن ناقلاً مؤكداً لأمراض معدية كبرى لدى البشر، رغم قدرتها على امتصاص دم أكثر من شخص واحد. هذه النقطة تهمّ الباحثين أخلاقياً، لأنها تسمح باستخدام متطوعين للتغذية في التجارب، وتؤكد في الوقت نفسه أن تحويل الحشرة إلى «شاهد» لا يضيف خطراً وبائياً جديداً إلى الصورة، التي تظل فيها أهم الأضرار مرتبطة بالحكة، الاضطراب النفسي وصورة الفقر والتهميش التي تلتصق بوجودها في البيوت والفنادق. لكن هذا «العدو المنزلي» التقليدي يكتسب اليوم دوراً مزدوجاً: مصدر قلق لسكان المدن المزدحمة من جهة، وأداة علمية يمكن أن تساعد على ملاحقة مرتكبي الجرائم من جهة أخرى، في مفارقة تلخّص كيف يمكن للطب الشرعي أن يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والحشرات في زمن تتسارع فيه التقنيات الجزيئية داخل المختبرات الجنائية.