لا شيء يلخّص مأساة سيدي الهواري أكثر من جدرانه المتآكلة ونوافذه المغلقة ونهاراته التي صارت أشبه بمقابر للذاكرة، في مدينة تخطو مسرعة نحو النسيان. يُقال إنه كان يوماً قلب وهران النابض، الحي الذي اجتمع فيه التاريخ والمعمار والأعيان والمهاجرون، حيث عاش فيه أجيال متعاقبة وتركوا بصماتهم في أزقته ومساجده وقصوره، لكنه اليوم يبدو وكأنه يتلاشى عن وعي جماعي وببطء مؤلم، لتسود مكان روحه صرخات الخراب والتهجير.
رغم تصنيفه منذ سنوات ضمن "القطاعات المحمية"، ظلت الإخفاقات الرسمية تلقي بثقلها على هذه الربوع، فالهدم المتكرر بحجة الخطر والعمران المتهالك لم يصحبه إلا نزر يسير من الترميم، وغالباً ما كانت عمليات "الترحيل إلى الإسمنت" تعني اقتلاع السكان من جذورهم وإلقاءهم بعيداً عن البحر الذي شكّل جزءاً من ذاكرتهم الجمعية، تحت راية مشاريع سكنية جديدة تبعدهم عن ماضيهم وتجبرهم على بدء كل شيء من نقطة الصفر. القليل من العائلات التي قاومت وشبكت أيديها بنوافذ البيوت القديمة تجد نفسها في صراع مع السلطة والقدر، تتهمها بالإهمال ويجبرها الواقع على التنازل عن حكايات البيت مقابل شقة إسمنتية بلا هوية أو تاريخ، في ضواحي لا تشبههم بالحد الأدنى.
اليوم يعيش سيدي الهواري تناقضاً صارخاً: بين مشاريع رسمية تتحدث عن "الحفاظ على التراث" وقرارات إدارية لا ترى في الحي سوى خطر أو كتلة قابلة للهدم بزعم التنمية والأمن، وبين سكان يشهدون كل صباح تهاوي ذاكرة جماعية، ومعها تتسع هوة الفقر والبطالة والتهتك الاجتماعي. السياح نادراً ما يغامرون إلى هناك، فالأزقة صارت مهملة، وفوق رؤوس القلة الباقية تتدلى شرفات مهددة بالانهيار مع كل عاصفة. حتى الجمعيات المحلية، رغم وقفاتها الاحتجاجية وتوثيقها للمآسي، تجد نفسها عاجزة أمام آلة السلطة ومصالح المستثمرين.
حين تسير اليوم في سيدي الهواري، تشعر أنك في حطام مدينة تئن تحت صمت مدوٍ، كتلك الأحياء التي فقدت هويتها في الحروب أو الهجرات القسرية. هناك، في كل زاوية، تصطدم بجدران تهمس أن العودة مستحيلة وأن الريع العقاري بات أقوى من حنين السكان ومن كل محاولات "إعادة الاعتبار". تحول الحي من كنز حضاري إلى ملف إداري معلق، ومن فضاء للتعايش إلى متحف مفتوح للفقر والتجاهل الرسمي.
تبقى مأساة سيدي الهواري مرآة لعلاقة قاسية بين مدينة وذاكرتها، بين سياسات عاجزة وسكان يُسرق منهم كل يوم بيت وحكاية ورائحة بحر. هنا لا يرحل العمر فقط، بل تتبخر المدن من وجدان أبنائها بروية قاتلة، في مسلسل طويل من التناسي واللامبالاة وتغليب المصالح على كل أثر وتاريخ. لا أحد يراهن اليوم على عودة الروح لهذا المكان... سوى عشاق مستعدون للدفاع عن ظلال الراحلين بكل ما أوتوا من أمل.