ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الذكرى الثمانين لتأسيسها، خطابا مثيرا للجدل امتد لأكثر من ساعة، أي أربع مرات أطول من المدة المخصصة له. هذا الخطاب، الذي جمع بين المزاح الارتجالي والنقد اللاذع، كشف عن فجوة متنامية بين الرؤية الأمريكية التي يجسدها ترامب، وبين مواقف غالبية المجتمع الدولي.
افتتح ترامب كلمته بمحاولة ساخرة أشبه بعرض كوميدي إثر عطل تقني في جهاز التلقين، قبل أن يعود لاحقا إلى قراءة نص خطابي مطوّل شدد فيه على ما يعتبره إنجازات "عهد جديد لعظمة أمريكا". فقد عدد بالأرقام المكاسب الاقتصادية التي حققتها بلاده، مؤكدا أنها تعيش "العصر الذهبي" بفضل حدود قوية وجيش قوي واقتصاد متين. ومع ذلك، فإن مضمون الخطاب اتسم بتصعيد اللهجة ضد خصومه الداخليين والخارجيين على حد سواء.
شملت انتقادات ترامب الأمم المتحدة نفسها، التي وصفها بالعاجزة عن حل النزاعات وبالمؤسسة التي لا تتجاوز كتابة الرسائل الرسمية دون أثر فعلي. كما هاجم حلفاء في الناتو بسبب استمرارهم في شراء الطاقة الروسية، واتهم الاتحاد الأوروبي بانتهاج سياسات "انتحارية" في مجالي المناخ والهجرة. كما اتهم البرازيل باضطهاد الرئيس السابق جايير بولسونارو، في موقف يبرز تداخلا غير معتاد بين العلاقات الشخصية والسياسة الخارجية الأمريكية.
ركز ترامب بشكل خاص على قضيتي الهجرة والانتقال الطاقي. فقد اعتبر أن سياسات الحدود المفتوحة تشكل تهديدا وجوديا، مضيفا أن "المهاجرين غير النظاميين يدمرون المجتمعات الغربية". وعلى المستوى المناخي، كرر إنكاره التام لظاهرة الاحتباس الحراري، واصفا إياها بأنها "أكبر خدعة في التاريخ"، معتبرا أن الطاقات المتجددة، خاصة طاقة الرياح، مكلفة وغير مجدية. بالمقابل، دعا إلى العودة إلى مصادر الطاقة التقليدية باعتبارها الضمان لاستعادة قوة الغرب.
في الشق الجيوسياسي، أعلن ترامب أن الولايات المتحدة نفذت عملية عسكرية ضخمة ضد المواقع النووية الإيرانية، زاعما تدميرها بالكامل. كما تطرق إلى الحرب في أوكرانيا، معتبرا أن استمرارها لأكثر من ثلاث سنوات دليل على فشل روسيا في تحقيق أهدافها، منتقدا في الوقت ذاته دولا أوروبية لتمويلها "غير المباشر" لموسكو عبر استمرار شراء الطاقة الروسية.
لم يخلُ الخطاب أيضا من إشارات متضاربة؛ فمن جهة قدّم نفسه كمدافع عن حرية التعبير وحماية المسيحية باعتبارها "أكثر الديانات اضطهادا في العالم"، ومن جهة أخرى اتسمت مداخلاته بحدة واتهامات مباشرة تجاه قوى كبرى مثل الصين والهند، اللتين اتهمهما بالمساهمة في تمويل الحرب الأوكرانية عبر صادرات الطاقة الروسية.
ردود القاعة عكست الهوة العميقة بين واشنطن وبقية العالم. ففي حين قوبلت مداخلات قادة كالرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بإشادة واضحة، اتسمت أجواء المحفل الدولي ببرود وصمت أثناء خطاب ترامب، ما عكس فتورا دبلوماسيا غير مسبوق.
هذا التباين جعل عددا من المراقبين يرون في خطاب ترامب مؤشرا على تراجع مكانة الولايات المتحدة كقوة جامعة للنظام الدولي. فبينما يسعى الرئيس الأمريكي إلى تصوير بلاده بوصفها قوة لا تضاهى، ينبه محللون إلى أن خطابه قد يعكس بالأحرى ملامح "انسحاق داخلي" للإمبراطورية الأمريكية وتسارع في مسار أفول النفوذ الغربي، في مرحلة يوصف بأنها انتقالية في موازين القوى العالمية.