يقدّم المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابِه أطروحة مفادها أن إسرائيل تدخل طور تفكك داخلي تقوده حكومة يمينية دينية قومية يعتبرها «نيو-صهيونية»: قيم صهيونية قديمة أعيد إنتاجها بشكل أشد تطرفاً وأكثر صراحة في التفوق والعنصرية والعنف. وفق رؤيته، انتقل هذا النهج من «التطهير العرقي البطيء» إلى استخدام الإبادة كأداة لإفراغ غزة وربما الضفة لاحقاً، فيما يتبلور كيانٌ أيديولوجي يسميه «دولة يهودا» يبتلع تدريجياً «دولة إسرائيل» القديمة.
يرى بابِه أن محاولة استهداف فريق تفاوض تابع لحماس في قطر جاءت لتعطيل مسار وقف إطلاق النار ولإظهار قدرة إسرائيل على العمل بمعزل عن السيادة والقانون الدولي. ويقدّر أن واشنطن كانت على علم بالغارة، وأن الرهان كان على تمرير الأمر حفاظاً على توازن العلاقات مع الدوحة وتل أبيب، وهو توازن يزداد صعوبة مع الوقت.
«دولة يهودا»، بحسب بابِه، خرجت من رحم الاستيطان بعد 1967 كتيار هامشي يجمع الصهيونية الدينية مع الأرثوذكسية، قبل أن يصعد مع فوز الليكود عام 1977 ويتوسع عبر مؤسسات تعليمية وخطاب ديني-سياسي يصوّر اللحظة باعتبارها عودة لإسرائيل التوراتية. هدفها المعلن: سيادة على كامل فلسطين التاريخية ونظام ثيوقراطي، مع عداء ليس للفلسطينيين فقط بل أيضاً لليهود العلمانيين. وقد بلغ نفوذ هذا التيار ذروته بتحالف نتنياهو معه في 2022 وتسليمه مفاصل حساسة في الأمن والشرطة والجيش والمالية، ما منحَه قبضة عميقة على مؤسسات الدولة.
يضيف بابِه طبقة اجتماعية لهذه القصة: تهميش تاريخي لشرائح مزراحية دُفعت إلى الهوامش اقتصادياً وتعليمياً، ثم جرى توظيفها سياسياً ودينياً مع توسع التعليم القومي-الديني مكان الرعاية الاجتماعية الغائبة، فبرز جيل أكثر محافظة واستعداداً لتبني سرديات قومية دينية متشددة. هذا يفسّر انتشار لغة الكراهية والعنصرية في مشاهد الحرب، بوصفها نتاجاً لمؤسسات وخطاب متراكمين لا هامشيين.
في خلفية ذلك، ينظر هذا التيار إلى السياسة بعدسة أسطورية توراتية تتضمن مشروع «الهيكل الثالث» والسعي لتغيير الواقع في الحرم الشريف/الأقصى، ويتجاوز تصوره الجغرافي فلسطين إلى الأردن وسوريا ولبنان. قد تبدو هذه الطموحات غير واقعية، لكن بابِه يحذّر من أن محاولة تحقيقها نفسها قد تدفع نحو تفكك الدولة بفعل مغامرات توسعية وكلفة متصاعدة.
يصف بابِه نموذجاً إقليمياً قيد التشكل: مركز ثِقَل في القدس يقود شبكة من التابعين والأعداء المعاقَبين دورياً، مع تمدد أمني وعسكري خارج فلسطين التاريخية إلى جنوب لبنان وجنوب سوريا وضربات ممتدة. ويشير إلى فارق كبير بين الخطاب العبري الداخلي الأكثر صراحة في الأهداف التوسعية وما يُسوَّق خارجياً بالإنجليزية.
كيف يقود ذلك إلى التفكك؟ داخلياً: صراع بين «دولة يهودا» والدولة القديمة، إنهاك اجتماعي واقتصادي، وتآكل تماسك المؤسسة العسكرية. خارجياً: كلفة أمنية متنامية تُحمَّل للولايات المتحدة، وتبدّلٌ في الرأي العام العالمي واحتمالات انتقال المقاطعة إلى عقوبات رسمية، مع تحوّل واضح بين أجيالٍ يهودية شابة في أمريكا تنأى عن الصهيونية. فلسطينياً: جيل شاب يمتلك رأس مال بشري وتنظيمي يمكنه إعادة بناء الحركة الوطنية على قاعدة رؤية أوضح تتجاوز حل الدولتين نحو صيغة ديمقراطية واحدة.
يتوقف بابِه عند سيناريوهات غزة–سيناء: رفض مصري لتهجير جماعي قد يدفع إسرائيل إلى الدفع بمشروع «مدينة لاجئين» على الحدود، وهو مشروع يفتقر للتمويل الكافي وقد يواجَه برفض فلسطيني واسع، ما يطيل أمد المأساة ويزيد ضغط الشارع المصري على دولته، ويرفع كلفة استمرار النهج الإسرائيلي إذا ترافق مع عقوبات أوروبية فعلية تقطع التجارة والرياضة والثقافة كما جرى مع روسيا.
يعتبر بابِه أن «إزالة الاستعمار» ستكون عملية فوضوية لا تخلو من العنف والانتكاسات، لكن تراكُم الضغوط قد يفضي في النهاية إلى ديناميكيتين داخليتين حاسمتين: تحوّل في موقف المجتمع اليهودي الإسرائيلي شبيه بما جرى في جنوب إفريقيا البيضاء حين أقرّ جزءٌ واسع بأن لا بديل عن إعادة التفاوض على البنية السياسية، وحركتَي هجرة متعاكستان: خروج من يرفض العيش في دولة غير فصل عنصري، وعودة لاجئين فلسطينيين تغيّر الديموغرافيا وخيارات الحكم. ويعوّل على نزعة فلسطينية غالبة نحو الاستعادة والبناء لا الثأر، وعلى استعادة نموذج تعايش مديني–متوسطي سبق 1948.
على المستوى العسكري، يتحدث عن إنهاك بشري ومادي: احتياطيون صاروا عملياً جيشاً دائماً مع خسائر مهنية وعائلية، وعُدّة حرب صُممت لمعارك قصيرة ومبادِرة وعلى أرض الخصم، وهو ما لم يتحقق منذ 2023. ورغم بقاء التفوق العسكري، فإن حكم ملايين البشر بالقوة إلى أجل غير مسمى مسار مرهق تاريخياً وله سقف معلوم.
في المحصلة، لا يقدّم بابِه نبوءة يقين، بل مساراً محتملاً تتقاطع فيه أيديولوجيا توسعية واقتصاد مثقل وعزلة دولية وتحوّلات داخلية إسرائيلية وفلسطينية وإقليمية. هذا التقاطع، إذا استمر، قد يدفع إسرائيل إلى حافة تفكك بنيوي يفتح الباب لنقاش جدي حول شكلٍ سياسي جديد على أرضٍ واحدة بحقوق متساوية للجميع.
يرتكز هذا العرض على مقابلة إيلان بابِه في برنامج الصحفي كريس هيدجز بعنوان: Is Israel ‘On the Brink?’ المنشور على يوتيوب،


