النيوليبرالية وازدراء الشعب: قراءة مع باربرا ستيغلر

أضيف بتاريخ 12/16/2025
منصة المَقالاتيّ

باربرا ستيغلر فيلسوفة فرنسية معاصرة يربط عملُها بين نقد النيوليبرالية والتفكير في الديمقراطية واستلهام إرث نيتشه، وتشغل اليوم مكانةً مميّزة في النقاشين الفكري والإعلامي في فرنسا.



تطرح باربرا ستيغلر سؤالًا مباشرًا: هل الانتخابات لحظة ديمقراطية فعلًا أم لحظة يتخلى فيها الناس عن قدرتهم على الحكم لأنفسهم لصالح نخبة تحكم من فوق؟ في قلب هذا السؤال تقف النيوليبرالية بوصفها مشروعًا دولتيًا منظمًا، لا انسحابًا للدولة كما يُشاع، بل عودةً قويةً لها عبر القانون والسياسات العامة لصناعة "السوق التنافسي" و"تصنيع القبول" على نطاق واسع.

تبدأ الحكاية في ثلاثينيات القرن العشرين حين لاحظ منظّرو الليبرالية الأكثر نقدًا، مثل والتر ليبمان، أن "السوق لا يعمل وحده". هنا تُصاغ النيوليبرالية كأوردو-ليبرالية: دولة قوية تُنشئ النظام التنافسي بمزيج من تشريعات دقيقة وسياسات عمومية نافذة، وتعيد هندسة التعليم والصحة والعمل كي تُنتج أفرادًا "قابلين للتوظيف" ومتّسقين مع العولمة. هذه الرؤية رأسية بطبعها: إذا لم ينجح الإقناع، يأتي دور الدفع السلوكي؛ دفعات سلوكية صغيرة وغير محسوسة لتوجيه السلوك العام نحو "الاتجاه الصحيح". الهدف النهائي ليس مساواة نتائج، بل "مساواة الفرص" عند خط الانطلاق، تمهيدًا لشرعنة الفوارق في خط النهاية.

تنتقد ستيغلر الخلط بين النيوليبرالية والليبرتارية. فالأولى دولة قوية لإدارة المنافسة العالمية، بينما الثانية تطمح إلى منشار يقطع الدولة ويُبقي الشرطة والجمارك والقضاء ويترك "الباقي للسوق". ومع ذلك، لا نرى النيوليبرالية في صورتها الصافية؛ فهي تمتزج مع أشكال كلاسيكية من الافتراس عبر الدولة، لتنتج في الواقع "بلوتوقراطية" يتقدّم فيها من يملك المال والنفوذ.

في التعليم، تشرح ستيغلر كيف تُحوَّل الصفوف إلى سباقات متواصلة، تُستبدل روح "العمل الجماعي" بمنصات انتقاء رقمية ومعدلات مُكدّسة، وتُطبّع المقارنة الأفقية الدائمة التي تُفرغ فكرة المواطن من مضمونها لصالح "المُرشَّح الأفضل". في الثقافة والإعلام، يستعيد النقد الكلاسيكي لمدرسة فرانكفورت: تسريع الإيقاع، صدمات متتالية، صناعة قبول عبر منصات تموَّل وتُدار بهيمنة ثقافية تتسلّل للوعي اليومي. ومع أن الشبكات الاجتماعية تضاعف هذه الذبذبات، فإنها تتيح أيضًا إمكانات تمرّد لا مركزية، كما حدث مع حركة "السترات الصفراء"، ما يفسّر سعي المنصات والدول إلى الضبط الخوارزمي.

على الضفة الديمقراطية، تُعيد ستيغلر إحياء الحوار بين ليبمان وجون ديوي: الأول يرى "جماهير متأخرة" تحتاج توجيهًا تقنيًا؛ الثاني يرى "عمومًا متعددًا" يتكوّن حين يتعرّف الناس على مشاكل مشتركة ويجرّبون حلولًا جماعية بمساندة الخبراء لا سطوتهم. بهذا المعنى، تفصل ستيغلر بين "نظام انتخابي" يُقصي الشعب عن الحكم و"ديمقراطية مباشرة" تصنعها جمعيات تُداوِر المشاركة وتستعين بالقرعة لتكسر أسطورة "المنتخب الاستثنائي". الانتخابات، في نظرها، هي لحظة تجميع أفراد معزولين في معازل اقتراع، لا لحظة تشكّل "ديموس" يتداول ويصوغ مصلحة عامة.

من هنا، يصبح تاريخ الاتحاد الأوروبي مثالًا على ترسيم النيوليبرالية في نصوص فوق وطنية: "منافسة حرة وغير مشوّهة" محمية بمعاهدات لا تلتفت لإرادة الشعوب. تقترح ستيغلر أن استعادة السيادة الديمقراطية لا تبدأ حصرًا بالخروج المؤسسي، بل بإعادة الشعب إلى مركز القرار؛ حينها تضعف القشرة الفوقية تلقائيًا لأن مصادر شرعيتها تُسحب من تحتها.

تحت مجهر الصحة العامة، ترى ستيغلر أن سنوات كوفيد كشفت النيوليبرالية في ذروتها: مستشفيات "تدفق" بلا مخزون آمن من الأسرّة، تحويل المريض إلى ذاتٍ تُطوّع مسارها عبر تطبيقات ورموز الاستجابة السريعة (QR)، وإسناد سياسات اللقاح إلى شركات استشارات لا خبرة صحية لها، وتعميم "المرور الصحي" ليصبح الناس رقباء على بعضهم. ما ظنّه البعض "عودة دولة الرعاية" كان في الحقيقة دولة قوية تُخاطب أفرادًا معزولين وتُحوّل الممارسين الصحيين إلى منفّذين لقرارات مركزية. تفاقم الالتباس لأن كثيرًا من التيارات اليسارية لم تُحسن تشخيص النيوليبرالية، فظنت أن أي تدخل عمومي يعني نكوص السوق، بينما النيوليبرالية تعمل أساسًا عبر تدخل الدولة.

هذا النقد لا يساوي بين السلطوية والدكتاتورية؛ بل يُوضّح طيفًا واسعًا بينهما. خلال الجائحة، بقي النقد ممكنًا، وإن بكلفة عالية، لكنه كشف أيضًا هشاشة "الديمقراطية الصحية" التي انتزعتها حركات مرضى مزمنة منذ زمن الإيدز: المشاركة الفعلية في توجيه البحث والبروتوكولات، لا مجرد "استشارة شكلية". جائحة كوفيد هدمت كثيرًا من هذا البناء، وتحتاج إعادة ترميمه إلى استعادة القرار من القمم التقنية إلى ساحات التجربة الشعبية.

على مستوى السياسة المحلية، تُذكّر ستيغلر بأن الفارق بين "اليمين" و"اليسار" يظل متصلًا بروح الثورة الفرنسية: فريق يريد إغلاقها، وآخر يريد استكمالها نحو جمهورية اجتماعية ديمقراطية. غير أن تنظيم الحركات الحديثة يواجه التحدي الدائم: كيف يجمع صلابة العمل الجماعي مع منع تشكّل هرمية خانقة؟ الجواب، في رأيها، يبدأ من قواعد منتشرة تتداول السلطة داخليًا وتفرض أثرها البرنامجي تصاعديًا.

تُراهن ستيغلر على المسرح كمساحة عامة ملموسة لعيش الديمقراطية: لقاء مباشر، ضوء وصوت وموقع، و"ديموس" يُرى ويُسمع ويتدرّب على الكلام معًا. فالديمقراطية لا تُستعاد بنصّ قانوني فقط، بل بممارسة زمنية منتظمة؛ تمامًا كما فعل الأثينيون حين حولوا "البنيكس" إلى موعد يجتمع فيه الآلاف كل عشرة أيام على مدى قرون. في زمن العولمة الرقمية، يحتاج هذا التدريب إلى خيال عملي جديد، لكنه يبقى قائمًا على الفكرة البسيطة: أن الشعب موجود حين يجتمع ليحكم نفسه، لا حين يُستدعى منفردًا للإدلاء بصوته.